** أنيسيّات ; Aneesiyyat
... قضيت دراستي جلّها في كركوك الحالمة الوديعة , ضمّت أطياف العراقيين فسيفساءً ملونةً جميلة , لم تمتد إليها يد التعصب والشقاق , رغم اعتزاز كل ّقوم بأهليهم سماحا .
... في العطلة أصطاف جنوبا الى كَرمة بني سعيد , مسقط الرؤوس أجمعنا , حيث أهلي وعمومتي وناسها الكرماء , رغم مساحات الفقر الضارب أطنابه على تلك القرية الخضراء , تشطر فراتها العذب شمالا , شطرين أو ثلاثا .
... تعودت أقضي صباحاتي أمام دكان المرحوم عبد الحسين آل سلمان , المجامل الدمث حياءا وآدابا , شأن الطيّبين وهم لم يجلسوا على مقاعد الدرس يوما .
... ذات صباحٍ تموزيٍ قائض , تشاجر علوان الأفطس البدين مع إبن عمّه عبد الرضا الهزيل البنية , يكبره سنينا عجافا , يزمجر فوق رأس علوانٍ غضبانا أسفا , والرذاذ الأصفر يتطاير من فمه الموحش الأضراس إلاّ بقايا من أطلال خولة , محبوبة ابن العبد , بينما اكتفى علوان يستفزه غايةً في الصلافة , يضحك ملء شدقيه غرورا واستخفافا .
... راقب الموقف عن كثب المرحوم حمّود الحاج سعيد بعينين ثاقبتين , وكأنه يضمر شيئا لم أفقه حينها أمره , ذلك الرجل كتلةٌ ضخمةٌ من رجالات كَرمة بني سعيد , يضع لمسته الأخيرة في أصعب المواقف حراجة .
... تعالت صيحات عبد الرضا النحيف الخفيف لحما وعظما , خلا من كل ّشيء , إلاّ صوته الجهوري ملأ سوق الكَرمة طرا , فاجتمعوا حولنا .
... هنا نهض حمّود (والد كمال , الديبلوماسي العريق , زميلي في الخارجية , رغم أننا لم نعمل سوية في أي ّدائرة منها) بقامته المهيبة , ناشرا كفه السمراء محبة وسلاما في وجه عبد الرضا , ملتمسا رحيله من هنا , دفعا للشر فقد استشرى , لكنه رفض الرجاء غيّا وطغيانا على ابن عمّه الرابض
على مقعده , يتفادى صيحات وشتائم عبد الرضا المتوثب ذئبا عاويا , مستغلا إمساك الخلق به .
... طفح الكيل بالمرحوم حمّود , هجم يضرب قبضته العضوض على كتف عبد الرضا المرتجف مثل (عجل زهرة) يهزه خارج الميدان غصنا وئيدا :
- ولك اعبيد الرضا , إمش منّا , ولاتصير (حمقي) , روح (اتسفّه) أحسن لك !!
... دارت كلماته في خلدي دورة المنشار الكهربائي , ولكن هضمت ماقاله الرجل , رغم سنيني الغضة الأثنتي عشر , شخصت ُإليه يلقي أنفاسه على كرسيه الخشبي العجوز , ينظر في زوايا الأرض غضبا شدقميّا .
- عمّي , تسمح لي بسؤال ؟
... سألته خائفا أن ينهرني , وقد تحاشى الأخرون مسائلته , بيد أنه ابتسم لي مودةً واحتراما لايناسب حجمي الصغير أمامه :
- كَول اوليدي , إبن الملاّ , إبن الغالي ؟
- أكَول عمَي : إنته كَلت لهذا عبد الرضا : لاتصير حمقي , روح اتسفّه , بمعنى إنته وضعته بين خيارين ذميمين لاثالث لهما , كأنك تقول له بالعربي الفصيح :
- كن سفيها , ولاتكن أحمقا
... أجابني الرجل أستاذا جامعيا يناشد تلميذا خجولا :
- إي بويه , السفيه هوايه أحسن , لإن الأحمق يظل ياكل بروحه , بينما السفيه يذب ضيمه اعلى غيره , ويخلّي كَلبه فارغ !!!
... حسين العراقي , تلميذي الشفاف الرائق مثل سلافة قريش أيام الجاهلية , يعشقني حد التأله , لايفتح الفيس إلاّ على خاطرةٍ أو مقالٍ من جنابي , يكتفي وضع like عليها جميعا , لا قولا ولا تعليقا , يخاف أن يثلم المنشور عباراتٍ لاتليق بمقامي السامي الكريم .
... أبو نرجس , أو حسين العراقي يتهرّب من المرور في سيارته الجميلة أمام دكاني , كي لايراني من شدة الحب ّ ولهاً , طالب ٌ متعلق بأستاذه الشيخ حدّ الثمالة , رغم ذلك ينتقدني هذا الفتى , يقطر وسامةً وأنقا , و(يخش بعيني) : أنني أرهق نفسي صعودا في معاناتي لمجتمعٍ لايساوي شربة ماءٍ آسن , أو صحن نخالةٍ عفَنَا :
- يجب عليك أن تجلس على التل متفرجا , كي لاأفقدك في ليلةٍ أو ضحاها , فإن الجلوس على التل أسلم على قول الصحابي الجليل أبي هريرة الدوسيّ .
... أجبته عتبا أبويا , أدمدم :
- وأين ألقي حمم الغضب المتفجر في صدري مثل براكين اليابان ؟؟ ياأبا علي ّ : أنت تعيدني الى نظرية المرحوم حمّود الحاج سعيد (صير سفيه ولا اتصير حمقي) ولكن :
* ماضر ّ لو يجمع الإنسان اثنتاها : أحمقا وسفيها :
فوقفت ُ أسألها ... وكبف سؤالنا
صُمّا خوالدَ ..... مايبين كلامُها
دِمَن ٌ تجرّم , بعد عهد (أنيسها)
حجج ٌ خلون َ, حلالها وحرامها
فتوجّست رز ّ الأنيس , فراعها
عن ظهرغيبٍ والأنيس ُسِقامها